يراد بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: ..
يراد بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: "المراجع الأولية"؛ لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية [ت: 728ه] على تسميتها ب[طرق التفسير]، ذكر منها أربعة، وهي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين في التفسير[1].
وجعلها بدر الدين الزركشي [ت: 794ه] مآخذ التفسير، وذكر أمهاته، وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع[2]. وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعًا -إن شاء الله تعالى-.
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن[3]، وقال آخر: إنه من أبلغ التفاسير[4]، وإنما يُرْجَع إلـى القـرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ إجمال في آية تبيّنه آية أخرى، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى : بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح، والمفَسّر حينما يُجْري عملية التفسير، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى »عُطّلت« في قوله -تعالى-: ﴿وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان معنى اللفظة في الآية.
ومن هن، فهل كل ما قيل فيه: [تفسير القرآن بالقرآن] يعني أن البيان عن شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرته، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، ﴿لم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾: بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]«[5].
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي [ت: 1393ه]: [ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئًا لحِكَمٍ متعددة، فيذكر بعضها في موضع، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر].
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَ﴾ [الأنعام: 97].
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدني، ورجم الشياطين أيض، كما بينّه -تعالى- بقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5] وقوله: ﴿إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ [الصافات: 6، 7][6].
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: «ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ، ومن طينٍ في غيره، ومن حمأ مسنون، ومن صلصالٍ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه» [7].
نقد الأمثلة:
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى، أي: إن القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد، وهو حكمة خلق النجوم، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف، لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين، ولا بالحمأ المسنون...إلخ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيه، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى تزيل هذا الإشكال، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات وترتيبها في الوجود، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم عليه السلام، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل، حيث كان آدم تراب، ثم طين، ثم... إلخ.
وبهذا يظهر جليًّا أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى، وإن كان في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه تفسير قرآن بقرآن، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى، فإنه ليس تعبيرًا مطابقًا لهذا المصطلح، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح [تفسير القرآن بالقرآن] قد استُعمل بتوسع في تطبيقاته، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين، خاصة من نصّ على هذا المصطلـح أو إشـار إليـه في تفسيره؛ كابن كثير [ت: 774ه]، والأمير الصنعاني [ت: 1182ه]، والشنقيطي [ت: 1393ه].
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلًا ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3] حيث قال: «أي قاتلها لعدم إيمان قومك».
تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ [الحجر: 88] وفي الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَف﴾ [الكهف: 6]. وفي فاطر: ﴿فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8]. ونحوه: ﴿إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ﴾ [النحل: 37]. ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة، ومحبته لإسلامهم، وشدة حرصه على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ [8].
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن اعتبار كتب [متشابه القرآن][9]، وكتب [الوجوه والنظائر] من كتب تفسير القرآن بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب [متشابه القرآن] توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر، وقد يقع الخلاف بينهما في حرف أو كلمة، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب [الوجوه والنظائر] تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إنَّ مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [ت: 182ه] كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري [ت: 310ه] بسنده في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ﴾ [الطور: 6] قال: «الموقَد، وقرأ قول الله تعالى: ﴿وَإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ»[10].
أما كتب التفسير، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
[1] الحافظ ابن كثير [ت: 774ه] في كتابه [تفسير القرآن العظيم].
[2] الأمير الصنعاني [ت: 1182ه] في كتابه: [مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن].
[3] الشيخ محمد الأمين الشنقيطي [ت1393ه] في كتابه: [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن][11].
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح [تفسير القرآن بالقرآن]، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ تعبيرًا دقيقًا عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى، وهو بهذا مصطلح مفتوح، يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير، وأنها قد سارت عليه، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولًا: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخـل فـي هـذا المصطلـح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عامًا في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]. وقد خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل له بقوله تعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
ـ وفي قوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَ﴾ [الإسراء: 24].عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر، وهو مخصوص بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى﴾ [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان[12].
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، وبين في مواضع أخر: أن القدر الـذي ينبغي إنفاقـه هـو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منه، وذلك كقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منه، على أصحّ التفسيرات، وهو مذهب الجمهور...[13].
ـ وفي قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 1]، إجمال في المتلو، وقد بيّنه قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3].
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ﴾ [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُو﴾ [ غافر: 7].
ـ وفي قوله تعالى: ﴿إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران: 90]، إطلاق في عدم قبول التوبة، وهو مقيّد في قول بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت، ودليل التقييد قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء: 14].
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ »سِجّيل« في قوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ﴾ [هود: 82]، والممطر عليهم هم قوم لوط [عليه الصلاة والسلام]، وقد وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين، في قوله تعالى: ﴿قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ [الذاريات: 32، 33][15].
5- تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ﴾ [النساء: 42]، يراد بها: أن يكونوا كالتراب، والمعنى: يودّون لو جُعِلوا والأرض سواءً، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاب﴾ [النبأ: 40][16].
ثانيًا: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخـل في هـذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسيـر، وإن لـم يكـن فـي الآيــة ما يشكل فتُبَيّـنـُهُ الآية الأخـرى، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:
سبق مثال في ذلك، وهو: مراحل خلق آدم[17]، ومن أمثلته عصا موسى [عليه الصلاة والسلام]؛ حيث وصفها مرة بأنها ﴿حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ [طه: 20]، ومرة بأنها ﴿تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ﴾ [النمل: 10]، ومرة بأنها ﴿ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: 107]، فاختلف الوصف والحدث واحد، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله [سبحانه] جعل عصا موسى كالحية في سعيه، وكالثعبان في عِظَمه، وكالجان [وهو: صغار الحيّات] في خِفّتِه[18].
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثه، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة، ومثال ذلك:
قوله -تعالى-: ﴿إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ﴾ [طه: 40]، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله -تعالى-: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [11] وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ [القصص: 11، 12][19].
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله -تعالى-: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام: 33].
قال: »صرح -تعالى- في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما يقوله الكفار في تكذيبه، وقد نهاه عن هذا الحـزن المفـرط في مواضع أخرى كقوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُـكَ عَلَيْهِـمْ حَسَرَات﴾ [ فاطر: 8]، وقولـه: ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى القَـوْمِ الكَافِـرِينَ﴾ [المائدة: 68]، وقولـه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِـعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِـمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُـوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَف﴾ [الكهف: 6]، وقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3].
والباخع: المهلك نفسه...إلخ[21].
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر »وصفًا« وُصف به شيء، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي وصفت به، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن وروده، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني: والبقعة مباركة [لم][21] وصفها الله لما أفاض -تعالى- [فيه][22] من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة، حيث قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾ أي: إبراهيم ﴿وَلُوطًا إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: ﴿إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [ال عمران: 96].
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: ﴿شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [النور: 35][23].
* ومن أمثلة الثاني قوله: وسمّى الله كتابه هدى في آيات: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، ﴿إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [ فصلت: 44]، وفي لقمان: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ [لقمان: 3]، وفي النحل: ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين، وفي يونس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57][24].
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسيـر إمـا أن يكـون طريقه النقـل، وإما أن يكون طريقه الاستدلال.
والأول: يطلق عليه [التفسير المأثور]،
والثاني: يطلق عليه [التفسير بالرأي].
ومن هنا فإن تصنيف [تفسير القرآن بالقرآن]، في أحدهما يكون بالنظر إلى القائل به أول، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به، فالمفَسّـر هـو الذي عَمَدَ -اجتهادًا منه- إلى الربط بين آية وآية، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيح، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن ورُود تفسير الـقـرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [مفاتح الغيب][26] خمسٌ، ﴿إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34][26].
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد الـمفسر، والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهـذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلق، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير[27].
هذا .. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيرًا:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان، مثل تفسير "الطارق" في قوله -تعالى-: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله -تعالى-: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق: 3]، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، والله أعلم.
ـــ
[1] مقدمة في أصول التفسير، [ت: د. عدنان زرزور]، ص93 وما بعدها.
[2] انظر: البرهان في علوم القرآن، جـ2، ص156-164.
[3] شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في [أصول التفسير]، [ت: عدنان زرزور]، ص93.
[4] ابن القيم في [التبيان في أقسام القرآن]، [ت: طه شاهين]، ص116.
[5] رواه الإمام البخاري، انظر: فتح الباري [ط: الريان]، جـ6، ص448، ح3360.
[6] أضواء البيان، جـ1، ص87.
[7] التفسير والمفسرون، جـ1، ص42.
[8] مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، للأمير الصنعاني، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني [رسالة ماجستير، على الآلة الكاتبة] ص71،72، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
[9] تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهه، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة، وهذا المقصود هن، ككتاب [البرهان في متشابه القرآن] للكرماني وغيره.
[10] تفسير الطبري، جـ27، ص19، وانظر له في الجزء نفسه ص22، 37، 38، 61، 69 ، 74، 76، 92، 113، 120، وفي الجزء نفسه عن علي ص18، وابن عباس، ص55، 72، وعكرمة، ص72.
[11] يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة، وهي كالتالي:
1- جمع مرويات السلف في [تفسير القرآن بالقرآن] ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
[12] انظر: تفسير الطبري، جـ15، ص6768، والتحرير والتنوير، جـ15، ص72.
[13] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص107،108.
أضواء البيان جـ1 ص 343.
[14] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص343.
[15] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص86.
[16] انظر: تفسير الطبري، جـ5، ص93، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي، جـ1، ص246.
[17] انظر: ص4 من المجلة نفسها.
[18] انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، للرازي ص327، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص282،283، وتيجان البيان في مشكلات القرآن، للخطيب العمري، ص173.
[19] انظر: أضواء البيان، جـ4، ص408.
[20] أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر:مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
[21] كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق، حيث قال المحقق: والصواب [كم].
[22] الصواب [فيه] انظر: حاشية 7، ص194، من التحقيق.
[23] مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، ص194.
[24] المصدر السابق، ص188،189.
[25] وردت في قوله -تعالى-: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: 59].
[26] رواه البخاري، انظر: فتح الباري، جـ8، ص141.
[27] سبق أن طرحتها في مجلة البيان، ع76، ص15.